ما يعرقل الانتفاضة الشعبية هو الفساد، ذلك الجنرال الذي أسقط كثيرا من الدول، ونخر كثيرا من المجتمعات، وخرب اقتصاديات، والمعرقل الثاني للانتفاضة هو الحقد الأعمى.
هناك من يدفع بأن الثورة الشعبية ليست حلا، لكن الواقع برهن بأنه لا يمكن أن تقدم الأجسام القائمة حلا للأزمة الليبية، فهي بين خائر وطامع وخائن، فالأول مغلوب على أمره ومحبط، يحافظ على دحرجتها لكي لا تنفجر في وجهه، والثاني يحلو له الوضع، لأن التغيير يحيله إلى المزبلة أو السجن، فمن يذبح الدجاجة التي تبيض ذهبا، أما الثالث فعميل تابع لدول لها مطامع فينا أو ينتمي إلى تنظيمات إرهابية تكفيرية أو مافياوية عابرة للحدود، فلا مخرج لليبيا إلا بالثورة الشعبية، وهذه تحتاج إلى حماية، وقيادة الحماية متوفرة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، التي أعلنت عن انحيازها لمطالب الجماهير وحمايتها، وهى جادة في ذلك وقادرة عليه.
بروز قيادة لهذه الحشود تأخر كثيراً رغم أن الجماهير تغلي من الإذلال وضنك العيش، الواضح أن البلاد قد تصحرت، فلم يظهر أبطال للتاريخ يضحون ليقودوا الحراك الشعبي المدني، ووضع ليبيا نشاز، أمام قواعد علم الثورات، مما يحتم البحث عن العوامل المعرقلة والمغيبة للجماهير:
أولها الجنرال فساد: فهو يؤثر سلبا في ثلاثة عناصر على الأقل هي: الفساد يزعزع الأمن فيصبح الهم الأول للناس البحث عن أمنهم، والفساد يجوع الناس فيصبح البحث عن القوت هو الهم الثاني للناس.
تاريخيا الفقراء والمسحوقون هم وقود الثورات، أما قادتها فهم من الطبقات المتوسطة الذين لم يلههم غناهم الفاحش عن التفكير في الثورة، ولم يعجزهم فقرهم المدقع عن القيام بها. ليبيا نموذج لاستماتة الفاسدين في الدفاع عن الوضع القائم، وأقصى ما يطرحونه ترقيعات أو إصلاحات طفيفة، وليس في أجندتهم اقتراحات لنسف النظام الظالم وإحلاله بنظام عادل.
من ناحية أخرى الفساد قادر على تدجين أدوات تفعيل القانون، فيفلت المجرم من العقاب، ويتهم البريء ويبرئ المجرم، فيتحول الفساد إلى بطولة، ويكتسب الفاسد وجاهة اجتماعية، ليصبح رجل أعمال ومسؤولا نافذا.
الفساد يشتري أدوات جمع وتحليل المعلومات وصنع الرأي العام، فيبيض الأسود ويشيطن النزيه، ويغيب الحقيقة ويروج الزور، الفساد يشيطن رموز القوى الوطنية، بتضخيم أخطاء فئران السفينة وسطهم، وتلبيس جرائمهم للمؤسسات عموما، بينما المسؤول عنها مقترفوها، ولا يجب أن تحمل إلى المؤسسات بأكملها.
تورم الفساد هو سوء الإدارة من ارتجالية ومركزية وواسطة ومحسوبية، وحرمان جهات وشرائح من الفرص المتساوية في الخدمات والتوظيف والإيفاد، وهذه ولدت اختلالا في التوازن بين الصلاحيات والمسؤوليات بالمناطق المحررة من هيمنة الميليشيات، فالصلاحية قيادة جيش والمسؤولية (في عيون الناس) إدارة دولة.
باختصار الفساد قادر على الحفاظ على وضعه لأن الأقوياء هم الذين يحكمون، لكن الفساد يراكم الثروة، التي تخلق الفرق، التي تولد الغبن، الذي يفجر الثورة، بمعنى أن الفساد يؤدي في نهاية المطاف إلى الثورة، فالمسألة مسألة وقت.
ثاني العوامل المخدرة للجماهير ويمنعها من الالتحام مع بعضها في ثورة شعبية، هو إثارة الحقد الأعمى، وممارسة التطرف المذهبي، أو الفكري أو السياسي أو القبلي أو الجهوي، والفتنة والضغينة والثأر وعدم نسيان الأخطاء، وغفران الزلات وقبول التوبات. وذلك انتهاك لقواعد التحالفات والتحييد، وجهل بقواعد السياسة التي ليس بها عدو دائم، أو صديق دائم، بل مصالح دائمة.
ممارسة هذا الحقد الأعمى أدت إلى سلبيات عدة منها:
أولها: شق الصف الوطني بإثارة خلافات قديمة مثل نظام ومعارضة أو غازٍ ومقاوم أو أخضر ومخطط أو خلافات لاحقة مثل جماهيريين وسيفيين، أو خلافات مذهبية مثل الصوفية والسلفية، أو خلافات بين التيار معتدل ومتطرف، أو وحدوي، وانفصالي.
وثانيها: تهميش الكوادر المؤهلة علمياً وفنياً وإبعادها عن المساهمة في المعركة السياسية والإعلامية والاقتصادية والإدارية والعسكرية. كثير ممن هم في الدوائر الأولى يمارسون عمليات التحقيد لإبعاد كل من يظنون أنه منافس لهم، بدافع الغيرة أو الحقد أو الجهل.
وثالثها: تشكيل تحالفات بين أعداء تاريخيين، أيديولوجيين استخدموا قواعد التقية، بقصد الوصول إلى الكرسي، مثل تحالف بعض المحسوبين على النظام مع جماعة الإخوان والمقاتلة، واتفاقهما على العداء المستشري لقيادة القوات المسلحة.
ورابعها: الشيطنة الممنهجة للقوى الوطنية، التي يمارسها العدو باستخدام أدواته الإعلامية وقدراته المالية. تلك الشيطنة تدفعها الفتنة التي تشق الصف، ويغذيها الحقد الذي يغيب العقل ويغلب العاطفة.
الخلاصة يجب تشخيص أسباب المرض قبل الشروع في استئصاله، فلنبدأ بالقضاء على الفساد وتجفيف منابعه بالمصرف المركزي، أو بتحرير منابع النفط للسيطرة على تسويقه، ويجب استئصال الحقد من نفوس الناس، وتجذير الروح الوطنية بعيدا عن التعصب والتشفي والعنصرية والمذهبية، واجترار التاريخ. فلنتناسَ الأمس ونتوحد اليوم لإنقاذ الغد. الثورة الشعبية هي ثورة الغد.