أوروبا وهواجس الغاز الروسي
تعتمد دول الاتحاد الأوروبي على الاستيراد لتغطية احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وتبعاً لطبيعة هذه السلعة فلا يمكن توريدها إلا بطريقتين، الأولى من خلال خطوط الأنابيب التي تربط الدولة المصدرة بالدولة المستهلكة وأحيانا عبر أراضي دول أخرى، وتتسم هذه الطريقة بأنها آمنة وانخفاض تكاليفها وسرعة التوريد، والثانية بالتوريد من خلال ناقلات الغاز المسال التي يعيبها ارتفاع التكلفة وزيادة مدة التوريد.

هذا ويعتمد الاتحاد الأوروبي في تغطية احتياجات دوله من الغاز الطبيعي بشكل كبير على امدادات الغاز الروسي، حيث يشكل ما نسبته 40 % من استهلاك دول الاتحاد الأوروبي، حيث يتم نقله من خلال خطوط الأنابيب الممتدة عبر بولندا وألمانيا وبيلاروسيا وأوكرانيا التي يمر عبر أراضيها ما يعادل ثلث الغاز الروسي المصدر لأوروبا، وتعتمد بعض الدول الأوروبية بشكل شبه كامل على الغاز الروسي، منها مقدونيا الشمالية، وفنلندا، ولاتفيا وصربيا، كما أن بعض الاقتصادات الكبرى في أوروبا تعتمد اعتمادا كبيرا على الغاز الروسي، فألمانيا مثلاً تستــــــــورد منه حوالي 50 % من احتياجاتهـــــا، وإيطاليا 46 %، وفرنسا 25 %، مما ستكون معه هذه الدول بالذات عرضة للخطر في حال إيقاف الامدادات من الغاز الروسي.
ومع تزايد المخاوف من انقطاع امدادات الغاز الروسي لأوروبا بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ظهرت التحذيرات من اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على روسيا في إمدادات الغاز، مع ازدياد القلق من العراقيل التي بدأت روسيا في وضعها أمام دول الاتحاد لتصدير الغاز الروسي كرد على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها دول الاتحاد عليها، ومن بينها فرض السداد بالروبل بديلاً عن اليورو لتوريدات الطاقة من روسيا، وكذلك التهديدات الأوروبية لروسيا بزيادة العقوبات الاقتصادية بسبب حربها في أوكرانيا، لتطال إمدادات النفط والغاز، وبدأت بالفعل تلك المخاوف في التأثير على أسعار الغاز في أوروبا والعالم، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى البحث عن مصادر إمدادات بديلة للغاز الروسي، لضمان إمدادات متواصلة وكافية من الغاز الطبيعي من مصادر مختلفة عبر العالم لتفادي أي صدمات قد تنشأ بسبب تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، الأمر الذي يخلق تحديين للاتحاد الأوروبي: الأول وهو إيجاد بديل لإمدادات الغاز الروسي، والثاني يتمثل في كبح مستويات الطلب داخل دول الاتحاد لمواجهة الارتفاعات المتوقعة في أسعار الغاز، وما يترتب عليه من تداعيات اقتصادية واجتماعية.
جميع الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع تؤكد أن أي إجراءات أو تدابير تتخذها دول الاتحاد لن تكون مجدية في حال قطع إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا بالكامل، وسيكون من المستحيل تجاوز هذه الأزمة خلال أشهر قليلة، حيث أن المخزونات الحالية من الغاز الطبيعي لن تكون كافية لتجاوز الأزمة، إذ أنها باتت أقل من المعتاد، ويرجع ذلك لخفض روسيا صادراتها من الغاز لأوروبا في أواخر العام الماضي. وكذلك في شهر يناير الماضي وقبيل بدء الحرب، هذا بالإضافة إلى التوقفات التي حدثت خلال الأسبوع الماضي في خط الغاز العابر للأراضي الأوكرانية، وعليه في حال توقف امدادات الغاز الروسي بشكل كامل سيصل التخزين إلى مستويات أدنى مع توقع طقس شديد البرودة في فصل الشتاء سيصل فيها التخزين لمستويات سالبة خلال مدد قصيرة.
السيناريوهات المتاحة للاتحاد الأوروبي للسير فيها تتمثل في البحث عن مصادر أخرى للغاز الطبيعي، ومن بينها دول شمال افريقيا التي تزوّد أوروبا بالغاز الطبيعي عبر خطوط أنابيب (الجزائر وليبيا)، لكنها لا تملك القدرة التقنية على زيادة إنتاجها وصادراتها. هذا يعني أنّه لا يمكن لأوروبا الاعتماد عليها في الحصول على إمدادات إضافية لتحل محل الغاز الروسي، فالجزائر باعتبارها ثالث أكبر مزود للغاز إلى الاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج، فهي تمتلك خطوط أنابيب عبر البحر الأبيض المتوسط إلى إسبانيا وإيطاليا، إضافة إلى محطة للغاز الطبيعي المسال، وخلال العام 2021 صدرت لدول الاتحـــــــــــــاد ما نسبته 8 % من احتياجاته من الغاز الطبيعي، إلا إنه لا يمكنه أن يحل محل الغاز الروسي بالكامل بسبب التفاوت في قدرات الإنتاج بين روسيا والجزائر، كما إنها تعمل بأقصى طاقة انتاج في الوقت الحالي ولا يمكن لها زيادة الإنتاج خلال مده قصيرة، أما ليبيا والتي ترتبط مع أوروبا بخط الغاز الأخضر، الذي ينقل 8 مليار لتر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا سنوياً، ولا يمكن زيادة هذه الكمية خلال فترة قريبة بالنظر لحاجتها لاستثمارات ضخمة، في ظل غياب الأمن والاستقرار السياسي الذي تعانيه البلاد منذ 2011.
والخيار الآخر هو النرويج، التي توفر حالياً نحو 20 % من إمدادات الغاز الأوروبية، لكنها ومنذ أكتوبر من العام الماضي تضخ الغاز بطاقتها القصوى الأمر الذي يستحيل توقع أي كميات إضافية من خلالها.
وهناك أيضاً خيار استيراد الغاز المسال من بعض الدول المنتجة مثل قطر والولايات المتحدة الأمريكية وهي خيارات عالية التكلفة، على اعتبار حاجتها لناقلات متخصصة لنقل الغاز المسال، بالإضافة إلى احتياجها لتجهيزات خاصة لا تتوافر في أغلب دول الاتحاد.
الخلاصة أن هناك توجساً من أوروبا في طريقة التعامل مع ملف الغاز الروسي في ظل محدودية البدائل المتاحة وارتفاع تكاليفها، وجميع الدراسات التي اهتمت بالموضوع حددت مدة تتراوح بين خمسة وعشرة سنوات لإمكانية استغناء دول الاتحاد الأوروبي عن الغاز الروسي، وهذه المدة تمثل دورة استثمارية لبناء مصانع جديدة للغاز الطبيعي المسال، ويمكن خلالها للشركات الأوروبية إبرام عقود طويلة الأجل مع الدول المنتجة للغاز المسال ومع الشركات الأميركية التي من الممكن زيادة إنتاجيتها من الغاز في الولايات المتحدة، وكذلك تطوير إنتاجية الدول المنتجة للغاز المتصلة مع أوروبا بخطوط نقل الغاز كالجزائر وليبيا.