الموازن أو «حافظ الميزان» مصطلح جديد نسبيًا في العلاقات الدولية، ظهر وتبلور معناه النظري الدقيق مطلع القرن التاسع عشر خلال حروب نابليون بعد الثورة الفرنسية، وإن مارسته بعض الدول بصورة عملية قبل ذلك بوقت طويل دون إجهاد نفسها في تحديد معانيه أو التنظير لشروطه، مع أنها تقطف ثمار ممارسته بعد الحروب والصراعات.
والموازن هو اللاعب الدولي الأشد ذكاءً عند الحروب والصراعات الدولية الواسعة، ويتصف دوره بالمهارة والذكاء والرشاقة، لأنه ببساطة، يدفع أقل التكاليف ويجني أكثر الأرباح، وعندما ينجلي غبار الحروب يخرج باعتباره الفائز الأكبر، يحمل بين يديه جائزة الفوز التي تمكنه من موقع القيادة في النظام الدولي الجديد.
ومن المحتمل أن مصطلح الموازن؛ أوحت به لوحة شهيرة مرسومة لملك إنجلترا «هنري الثامن 1491/1547م» إذ طلب من أحد الرسامين تصويره وهو ممسك بيمناه ميزانا في حالة اعتدال تام، وقد وضعت فرنسا في إحدى كفتيه والنمسا في كفته الأخرى؛ ويحمل الملك في يسراه ثقلًا يتهيأ لوضعه في إحدى الكفتين، فإذا وضعه في كفة رجحت على الأخرى ؛ وقد نسب إليه القول «يفوز من أؤيده»، ومنذ عهده بدأت إنجلترا ممارسة لعبة الموازن لأكثر من ثلاثة قرون جعلتها أمة سيدة في العالم.
وتتمثل عبقرية الموازن في النأي بنفسه عن أطراف الحروب والصراعات (بعض الوقت)، مكتفيًا بمراقبة ميزان القوى ومتابعة نحو أي اتجاه سيبدأ في الميل، فهو يختار «بإرادته ووعيه» ما يسميه المفكر السياسي الأمريكي اللّامع «مورجانتو» (العزلة الرائعة) وهو بهذه العزلة الاختيارية يتحول إلى طرف فاعل بسبب سعي أطراف الحرب إلى كسبه، وفي الوقت الذي يتنافس فيه الطرفان عليه لإضافة ثقله لترجيح كفته فإنه يظل يتغنى بحياده ويرفض إغراء الانضمام لأي طرف بشكل كلي ودائم ويظل واقفًا في منتصف الميزان، ويراقب بحذر وحياد اللحظة المناسبة كي يرمي بثقله في إحدى الكفتين، وعندما يحدث ذلك فإنه من يحسم الصراع فيحقق الفوز ويحصد النتائج دون تكاليف باهظة؛ وهو -في الغالب- من يضع أسس وشروط النظام العالمي الجديد.
إن الموازن، مع بداية الحروب، يغدو صديقًا للجميع وعدوًا لهم في وقت واحد، فهو بغموضه المحسوب، يدفع الجميع نحو كسبه، أو على الأقل، تفادي شروره، ذلك أن الجميع يدرك أهمية ثقله مهما كان حجم هذا الثقل، ولأن الموازن يتنقل برشاقة حسب حركة الميزان، فإن سياسته تقابل بالامتعاض وتوصف بأنها انتهازية وغير أخلاقية، لأنها تقوم على المصالح لا المبادئ، وطوال التاريخ الحديث اشتهرت إنجلترا بممارسة سياسة الموازن، ولعل خير من عبر عنها رئيس وزرائها الراحل «ونستون تشرشل» بالقول (ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون بل لها مصالح دائمة) ومنذ عصر «إليزابيث الأولى 1533/1603» التزمت إنجلترا هذه السياسة وأحبطت بواسطتها كل التهديدات الخطيرة رغم تفوق خصومها أحيانًا، ومن كل الصراعات الأوروبية خرجت إنجلترا رابحة، وهي لم تنحرف عن هذه السياسة إلا في حروب القرن العشرين، حين جعلت من نفسها طرف صراع أصيلا فاستنزفت ذاتها وفقدت مكانتها التقليدية في سياسة العالم كما يعترف مؤرخها العسكري الأبرز «ليدل هارت».
إن هذا المقال لا يتسع لشرح أمثلة التاريخ التقليدية البارزة للدلالة على فاعلية ونجاح هذه السياسة، ومع ذلك لا غنى عن إشارات وجيزة لأهم رموزها، فقد كان من أبرز نماذجها الأمير النمساوي «كليمنس ميترنيخ 1773/1859م» فقد كان هذا المستشار الداهية السياسي الأكثر براعة في ممارسة سياسة الموازن، وتمكن من خلالها، ليس الحفاظ على أمن النمسا واستقلالها وحسب، بل أن يحولها إلى الدولة القائدة بعد هزيمة «نابليون» وبناء توازن قوى القرن التاسع عشر وقيادته رغم أن النمسا لم تكن الأقوى من بين أقطابه، فقد صنع بمهارته الدبلوماسية ما أصبح يعرف بـ(القرن الدبلوماسي 1815/1914م)، وهو قرن السلام الأطول في التاريخ الأوروبي كله الذي شهد ذروة حضارتها وإبداعها، وذلك ما أغرى ميترنيخ القرن العشرين «هنري كيسنجر» باتخاذ تجربة سلفه موضوعًا لأطروحته الجامعية (عالم يعاد بناؤه) ثم محاولة تكرار هذه التجربة عمليًا ببناء قرن دبلوماسي آخر، غير أنه فشل فشلًا ذريعًا لأسباب يتعذر متابعتها في مقال موجز.
وما من شك أن أبرز التجارب الحديثة ينبعث من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ففي الحربيين العالميتين، لعبت هذه البلاد دور الموازن، ففي الحربيين الأوروبيتين، في الأصل، انتظرت الولايات المتحدة الأمريكية سنوات، ليست قليلة، قبل التدخل والرمي بثقلها في الميزان، ففي الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914م انتظرت ثلاث سنوات التزمت خلالها بالحياد ومارس رئيسها «وودر ويلسون» وهو أستاذ السياسة والتاريخ عزلته الرشيقة ليرمي بثقلها عام 1917م ليحصد الفوز ويؤسس النظام العالمي الجديد وعصبة الأمم على مبادئه الأربعة عشر الشهيرة، وهو ما تكرر في الحرب العالمية الثانية، فمنذ صعود النازية والفاشية وظهور ملامح الحرب، وبصورة استباقية، أصدرت أمريكا قوانين الحياد أعوام «35-36-1937م» وعندما اندلعت الحرب عام 1939م انتظرت نحو ثلاث سنوات لترمي بثقلها مع الحلفاء فحصدت الفوز مجددًا وقامت ببناء النظام العالمي الجديد وهيئة الأمم المتحدة وفق منظورها ورؤيتها ولتغدو سيدة في العالم ما يقرب من قرن كامل.
ليست لعبة الموازن بلعبة سهلة أو متاحة لعموم الدول، وهي ليست مجرد قرار يتخذه سياسي بارع يتصادف وجوده على مسرح الحروب والصراعات، بل هي عملية مرتبطة بتوفر شروطها، وإذا كنت لا أستطيع الإفاضة في شرح هذه الشروط، لأسباب تتعلق بمساحة مقال، فإنني أشير إلى ثلاثة شروط أساسية تتمثل في «امتلاك القوة، الوعي والإدراك، ثم الموقع الجيوسياسي من أطراف الصراع».
إن امتلاك قدر معقول من القوة بالمعنى الواسع، هو الشرط الأهم، فلا تستطيع دولة ضعيفة أن تلعب دور الموازن، فالقدر المعقول من القوة هو ما يجذب أطراف الصراع، لأن زيادة هذا القدر من القوة يرجح كفة الميزان من جهة ويحمي سياسة الموازن نفسه من جهة أخرى، فإذا حاولت دولة ضعيفة ممارسة سياسة الموازن؛ فإنها تقع فريسة وهدفا مباشرا للأطراف المتصارعة، ولا يشترط في الدولة الموازن أن تكون على المستوى نفسه من القوة مع الأطراف المتصارعة، إذ يكفيها امتلاك القوة الرادعة لمنع الأطراف من الاعتداء عليها أو إجبارها، فالثقل النسبي هو القدر اللازم لإتقان لعبة الموازن.
الوعي والإدراك يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، فيشترط في الموازن امتلاك الإرادة السياسية والوعي الاستراتيجي لممارسة هذا الدور وفهم أبعاده وفوائده، وهو ما يتطلب الذكاء التام الذي يضمن التحرك الرشيق، وبغير الذكاء وسلامة الغريزة قد ينجرف الموازن نحو الانحياز لأحد الأطراف في وقت غير مناسب آملًا في جني الأرباح بصورة متسرعة، لكنه بمثل هذا العمل يعرض نفسه للخطر، فهو بالمساهمة المتعجلة في تحطيم طرف، يحول الطرف الآخر إلى قطب مهيمن فيضطر هو نفسه للاستسلام للهيمنة فيما بعد.
تتطلب سياسة الموازن، التربص باللحظة المناسبة للتدخل الفعال، وهي -في الغالب- لحظة إنهاك جميع الخصوم، ففي لحظة الاستنزاف تزداد الحاجة لثقل الموازن ويغدو الأقوى وتظهر الحاجة إليه في أوقات السلم كما كانت في ذروة الحرب.
وتتطلب، ثالثًا، سياسة الموازن، الموقع الجغرافي الحصين، إما بالانعزال الجغرافي البعيد أو بالعمق الاستراتيجي الذي يتيحه حجم الدولة، وهو ما يجعل مقدراتها في مأمن من ضربات العدو، فقد نجحت إنجلترا وأتقنت سياسة الموازن بسبب عزلتها عن البر الأوروبي في الحروب القارية، كما استفادت الولايات المتحدة الأمريكية من عزلة الأطلسي البعيدة.
في الحرب الروسية الأوكرانية اليوم، وهي حرب واسعة بكل المعايير، تتشابه من بعض الوجوه مع الحروب العالمية بسبب تداخل عوامل كثيرة، فهي حرب في الواقع، ومهما كانت المظاهر بين أقوى قوتين عسكريتين (روسيا وأمريكا) وهي حرب بين الشرق والغرب وتنطوي على أبعاد مركبة (عسكرية، اقتصادية، ثقافية وحتى دينية) فهي من نوع (صدام الحضارات) لا تخلو من الضغائن القومية والدينية بين البروتستانت والأرثوذكس، الأنجلوسكسون والسلاف وإن غطتها الدعايات الكاذبة عن الديموقراطية والاستبداد.
وفي مثل هذه الأحوال لابد أن تطرح الأوساط الإستراتيجية تساؤلات مهمة عمن هو الموازن المحتمل في هذه الحرب الكبرى؟
لا يوجد في الأفق دولة صالحة لهذا الدور، غير جمهورية الصين، بل إنها، على الأرجح، بدأت ممارسة هذه السياسة وبعثت الإشارات فور اندلاع الحرب.
لقد فقدت أوروبا مجتمعة ودولها الكبرى منفردة صلاحيتها لممارسة دور الموازن وحرقت كل أوراقها مبكرًا بالاندفاع السريع نحو المخطط الأمريكي الإنجلوسكسوني، إما بسبب الخوف والذعر أو بسبب سوء التقدير وعطب السياسة، أما ما تبقى من دول متوسطة وصاعدة، فهي لم تمتلك، بعد، خصائص الموازن وشروط دوره الحاسم.
تبدو الصين، دون غيرها، من تمتلك هذه الشروط والخصائص، فهي (أمة كبيرة) تمتلك القدرة العسكرية والاقتصادية وحتى الأخلاقية والمعنوية القادرة على التأثير وجذب اهتمام المتحاربين، فهي قوة عسكرية محسوبة في المشهد الدولي قادرة على الردع وحماية السياسة، وهي قوة اقتصادية كبرى لا يمكن إملاء الشروط عليها، وهي تمتلك الموقع الجغرافي والعمق الاستراتيجي، فهي بعيدة نسبيًا عن مسرح الحرب وذات عمق استراتيجي يستند إلى حجم الدولة الكبير بشريًا ومكانيًا، وهكذا لا يتبقى محل نظر غير (نفخة الروح) المتمثلة في الوعي والإدراك، فإذا أدرك قادة الصين حقائق الصراع ومآلاته وعزموا على الإمساك بالفرصة الإستراتيجية وصمموا على ممارسة لعبة الموازن، فإنها ستكون في طوعهم وبين أيديهم.
وتدل معظم الشواهد اليوم على أن الصين، بالوعي التام أو بدونه، بدأت الإمساك بخيوط الموازن بتحرك لا يخلو من رشاقة على خيوط ميزان الصراع بشكل لا ميل شديد فيه، فهي رغم الضغوط الأمريكية الغربية الشديدة من جهة والتغزل الروسي الحميم من الجهة الأخرى، لم تتخذ موقفًا منحازًا بل نهجت نهجًا دبلوماسيًا كثير التعقل، يدعو للحوار والتسوية السلمية ويوضح بأدب مسؤوليات الأطراف، ورغم جروحها الكثيرة وصراعاتها المريرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحساسيات الجوار والتنافس مع روسيا، فإنها لم تتعجل الفرص لتصفية الحساب، فرغم حربها الاقتصادية الشرسة مع أمريكا فإنها لم تعانق الروس، ورغم خصوماتها التاريخية مع روسيا فإنها امتنعت عن مسايرة الغرب، وهكذا وضعت نفسها -مبكرًا- في الموقع الذي يجب أن يكون فيه الموازن.
إن سياسة الموازن لم تعد ممارسة تتعلق بالعلاقات الدولية وحسب، بل أصبحت لعبة شائعة في الصراعات الوطنية تمارسها الأحزاب والقوى السياسية، فكم من حزب صغير نفذ إلى مواقع السلطة وشارك في إدارة الحياة السياسية عن طريق إتقان لعبة الموازن.
إننا لا نعرف الشيء الكثير عن التفكير الاستراتيجي الصيني الحديث وعقائد جيوشها في عصر الحروب النووية، فليس من تقاليد دول الشرق عمومًا، نشر الإستراتيجيات والخطط الحربية، لكن من المؤكد أن الصين ليست في حاجة إلى إجهاد نفسها في البحث عن أهمية وفوائد الموازن في بطون الكتب الكثيرة والنظريات الحديثة لإدارة الصراعات والحروب، فليس عليها غير تقليب صفحات قليلة من كتاب «صن تزو» (فن الحرب).. فمنذ مئات السنين وضع هذا الفيلسوف والمفكر الاستراتيجي العظيم في رفوف تاريخها وديعة ثمينة تتعلق بفنون الحرب، وفي ثناياها جواهر عن معاني الموازن!!