الرهان على أمريكا والغرب
إذا علمنا أن إنتاج واستخدام السلاح في أمريكا هو أحد محركات الاقتصاد الأمريكي والذي يقوم أصلا على هذا الأساس، وأن أكثر من 60 مليون أمريكي يعيشون على إنتاج السلاح واستخدامه، فكيف لهذه الحكومة الأمريكية أو أي حكومة قبلها أو بعدها أن تبادر إلى حل الأزمات التي تحصل حول العالم؟ لا سيما للدول التي تمتلك احتياطات كبيرة من النقد أو الذهب أو لديها مخزون ضخم من الموارد الطبيعية الأخرى لتتحول العلاقة بين الأزمات الاقتصادية والحروب إلى علاقة طردية، فكلما تحصل أزمة اقتصادية تختلق وتستغل بؤر جديدة للتوتر وتبدأ تروس مصانع السلاح في الدوران وإنتاج السلاح وإرساله إلى هذه البؤر لصب الزيت على النار كي تستمر الصراعات لمدة أطول وتنتعش تجارة السلاح كما حصل أخيرا في أوكرانيا، حيث زادت نسبة مبيعات السلاح الأمريكي بأكثر من 30%، وقفزت أسهم شركات التسليح لمستويات قياسية مع زيادة نبرات التصعيد لهذه الحرب، كما تشير مؤشرات البورصات العالمية، وخصصت أمريكا أكثر من 800 مليار دولار للإنفاق العسكري ضمن ميزانيتها للسنة القادمة في خضم صراع لم يعد عسكريا فقط من أجل الهيمنة والنفوذ، بل في جانبه الآخر هو صراع اقتصادي له ضروراته وأهميته، ويصبح اقتصاد الحرب والكوارث في أوكرانيا لدى الآخرين فرصا ومغانم يجب استغلالها والاستفادة منها لتعويض الخسائر التي منيت بها العديد من الشركات أثناء مرحلة الكورونا (كالنفط والنقل والغذاء) مع الإشارة إلى أن أمريكا تشتري سنويًا من مصانع السلاح ما يفوق 750 مليار دولار، وعليها أن تستخدم هذا السلاح لكي تعيد العملية الإنتاجية نفسها في السنة التالية، وإلا ستخلق أزمة اقتصادية تؤدي إلى أزمات في الصناعات الأخرى، ليس في أمريكا فقط، بل على مستوى العالم.
وإذا أردنا تنشيط الذاكرة التاريخية مع الغرب بعيدا عن لغة الأرقام فهي مشحونة بالنكسات والخيبات ومثقلة بالغصات والآهات وتبادرنا كالعادة بتكرار نفس السؤال كم هي الأزمات التي ساهم الغرب في إنهائها منذ أن بدأت الأزمة في فلسطين وحتى بداية الأزمة في ليبيا حين وضعوا خطط ومشاريع تمزيقها وتفتيتها على طاولة اللئام وما تلاها من نهب ممنهج للثروات واستباحة معلنة للمؤسسات المالية والاقتصادية وتخريب منهجي للوحدة الوطنية واستهداف مفضوح لمكونات الهوية الليبية وترك البلاد تئن بين التأزم السياسي تارة وبين التدهور الاقتصادي تارة أخرى مع تصميم وإصرار من جانبهم بعدم تركها حتى سلب آخر دولار من جيوبنا وسحب آخر سنت في خزينتنا، وهذه ليست دعوة للتسليم بالأمر الواقع أو للدخول معهم في صراعات غير متكافئة بقدر ما هي دعوة للرهان فقط على وعينا وعقولنا ويقظتنا الفكرية وعلى شبابنا وكفاءاتنا وخبراتنا المبدعة (والمبعدة) في كل المجالات، وأن نصارح أنفسنا ونعيد تحديد أهدافنا بدقة أو كما يُعرف بالمصطلح العسكري بفرز الأهداف ومنح الأولوية لتخليص بلادنا من الهيمنة الأجنبية وتحقيق الإرادة الوطنية وكسب رهان التنمية وإعادة الإعمار، وأن نتعلم كيف نفرض خياراتنا على غيرنا (ففي السياسية تلتقي مع غيرك حين تلتقي المصالح السياسية، ولكن ليس على حساب مصالح الوطن والشعب والأمة).
إذن والحالة هذه، كيف نستطيع إقناع أنفسنا، وكيف يستطيع الآخرون إقناعنا بجدية وجدوى حلولهم في حل مشاكلنا التي عجزنا بسببهم عن حلها؟ والحال سيان بالنسبة للأمم المتحدة التي تحولت إلى أداة وعصا أمريكية طويلة لضبط السياسات الدولية وترويض المشاكسين والخارجين عن طاعتها، وجعلت من القانون الدولي رهينة بأيدي الكبار وآلة حشد دعائية ومعنوية ضخمة لصالح المستضعفين، وهي تفتقر إلى آليات التنفيذ وعاجزة أخلاقيا عن الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم وفق معايير عادلة ومنصفة للجميع، ودفعت بالبعض منا للمراهنة والبحث عبثًا شرقا وغربًا عن حل طال انتظاره، ونحن على يقين بأنه لن يتأتى إلا بأيدي اتفاق الليبيين أنفسهم، وأن البقاء على ما نحن عليه الآن لا يعني سوى مزيد من الخلافات ومزيد من التعطيل للمشروع الوطني والسقوط في مخطط التدمير الممنهج القادم نحونا والذي يستهدفنا جميعا بكل اختلافاتنا وتنوعنا ولنكتشف للأسف وفي كل مرة أن الخصم هو من يحدد الهدف وهو من يختار التوقيت والمكان المناسب للمعركة، ونتحول نحن بدورنا إلى وقود لها دون وعي.. مع يقيننا بأن أمريكا والغرب عموماً لن يمنوا علينا في أحسن الأحوال بأكثر من حكومة ضعيفة تتحول فيها بلادنا إلى ضحية للقوى الدولية والإقليمية ومحمية تتلقى الأوامر والتعليمات من الخارج، وربما لا تخجل أو تمانع من بيع ليبيا للغرباء والدخلاء في سوق المزاد الخفي بدراهم معدودة وبثمن بخس أقل بكثير من الثمن الذي قبضه (يهوذا) وباع به روحه في الليلة التي خان فيها المسيح كما تروي أساطير الكنيسة.