تتناقل وسائل إعلام ومنصات اجتماعية، وتصرح شخصيات دولية، وتدعي منظمات مختلفة عن وجود ضيم بحق مسيحيي العراق الذين يشكلون جزءا من الفسيفساء المذهبية التي تشكل الديانات المتعددة في العراق، وتربط ذلك بوجود موجة من العداء لهؤلاء من قبل المسلمين الذين يتجاوز عددهم ‎%‎98 من سكان أرض الرافدين، ولا تقدم أسانيد أو حججا أو تبريرات مقنعة عما تدعيه، وتجاهلت أن التعايش في هذا الحيز الجغرافي ساده على مر العصور روح التآخي بين سكانه رغم اتباعهم معتقدات وأديانا عدة، وانتشرت الديانة المسيحية في أرض الرافدين وتلقفها أحفاد البابليين والكلدانيين والآشوريين، وقبائل تغلب ومضر وسليم وطيء وربيعة، في مرحلة ما قبل بزوغ دين الإسلام وانتشاره في عموم ما يعرف الآن بالعراق.
وشارك معتنقو الديانة المسيحية إخوتهم المسلمين في بناء العراق الحديث، حيث كان الدكتور حنا خياط أول وزير صحة في حكومة 1921 والصحافي روفائيل بطي، أول وزير إعلام في العراق في عام 1956، وتقلد دكتور متى عقراوي مهام أول رئيس لجامعة بغداد عام 1959، ولعل عراقية ووطنية المناضل طارق عزيز تعبير واضح في هذا الشأن، واستمر تبوؤ المراكز والمناصب في العراق على أساس الهوية العراقية دون النظر للمعتقد الديني، ولذا تواجد المسيحيون في مجالات العمل الحكومي في كل مستوياته، على مر كل الحكومات، كما ساهموا في الأدب والثقافة ومختلف العلوم، حتى في حقبة العهدين الأموي والعباسي، في تعايش إسلامي- مسيحي، مثالي متواصل حتى الاحتلال العثماني لأرض الرافدين، حيث عاشوا معا قمعاً عثمانيا، وعُرف عن أتباع المسيحية اعتزازهم بالهوية العراقية، ودفاعهم عن العراق أمام كل الموجات المعادية والطامعة في أراضيه وثرواته، وأبان الاحتلال الأمريكي في العام 2003 رفضوا التعاون أو العمل مع المحتل وأكدوا على انتمائهم للهوية العراقية الجامعة لكل أطياف مكونات العراق.
وطبقا للإحصاء السكاني في العام 1977 فإن ما نسبته ‎%‎2.14 من السكان مسيحيون، وفي ظل ما لحق العراق من حروب وآخرها الغزو الصليبي الغربي وحروب داعش ومجازر الميليشيات الصفوية المزروعة من إيران، تعرض المكون المسيحي إلى عمليات خطف وسرقة واستيلاء على الأموال والعقارات، والمنع من ممارسة الأعمال التجارية والصناعية والتهديد والتهجير من سهل نينوى والحمدانية وبعشيقة وغيرها من قرى الموصل لعدة سنوات قبل أن يبدأوا العودة التدريجية إليها، لكن كل هذا الاستهداف لم يقتصر على العراقيين المسيحيين دون غيرهم، ولكن شمل الإيزيديين والصابئة والشبك وأيضا العرب وعلى الأخص السنة منهم.
وازداد الأمر تعقيداً تفشي الفقر والجوع والمرض والبطالة وانعدام الأمن في عموم العراق، وشكل هذا الوضع صورة معادلة لما عاناه مسلمو ومسيحيو العراق أبان فترة الحكم العثماني (1534- 1918) من ظلم واضطهاد على يد العنصرية التركية.
ولا يزال ثمة هاجس مخيف يحيط بمستقبل المكونات والطوائف حتى بعد تحرير كل المناطق من عصابات داعش من جراء الدمار الذي لحق البيوت والبنى التحتية وغياب الأمن، وهي الصورة السائدة في كافة مناطق العراق بغض النظر عن قاطنيه.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي تكالب العراقيون بكل أطيافهم ومذاهبهم على طلب الهجرة إلى شتى بقاع المعمورة، وبكل الوسائل المشروعة وغيرها من سبل الهجرة المتاحة، ولعبت الدول الأوروبية وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية دوراً مشبوها في إعطاء أسبقية وأفضلية في منح موافقات الهجرة للمكون المسيحي، وساهمت أجهزة مخابراتية تحت مظلة منظمات مدنية في تسهيل هجرة أبناء المكون، وتدبرت أمر توفير الإقامة الآمنة لهم في تلك الدول ومارست برنامج لم شمل الأسر حيال عائلاتهم.
إن تباكي الغرب على انخفاض تعداد المكون المسيحي في العراق هو شكل من أشكال الإساءة وتشوية حقيقة المواطن العراقي الذي تغلبت هويته العربية والعراقية وعاش الجميع في فسيفساء في حضن أرض الرافدين وبلا عداوة أو تمييز، لكن سيظل العراق أقوى من الدسائس حاضناً لأهله من كل طوائفهم ومذاهبهم، رغم كل برامج الهجرة التي يمارسها الغرب في الخفاء، وادعاء التهجير الذي يصدح به في العلن.